حدثني عن الام المخاض، وكلمني عن سهر الأم على رضيعها، قل لي شعورها وهي تلاحظ تقدمه ونموه لحظة تلو الأخرى في طفولته، كيف تفرح عندما يخطو أمامها أولى خطواته؟ صف لي سعادتها يوم رأته في زي المدرسة في يومه الأول. خذني في رحلة العمر وهي تتذكر ذكريات الطفولة وتعبها أثناء مرحلة الشباب، حالمةٌ ان تراه قد أتم تعليمه ثم تحضر حفلٍ يزف فيه لعروسه او حلمها ان تحمل حفيداً… حدثني عن الصلاة والدموع والعطاء والمحبة والخوف والقلق والتعب والتربية والتنشئة والمعاناة والجهد والطاقة والصبر والليل وطول البال وقوة الاحتمال والاحلام والطموحات الذين ينتهون في لحظة دون عودة ولا أمل… لقد زرعت بالدموع ولم ولن تحصد… نعم فقد خرج الابن ولن يعود.
صديقي المشكلة لا تكمن فيما سبق، فهذا حال الكثيرين الذين يسمح لهم الرب بهذا الاتون المُحمى… ولكن الموضوع ببساطة انها اليوم تقف على مِنبر الاتون هذا لتتحدث إلينا، فانت تسمع ممن لم نسمع صوتها على مدار سنين طوال كمن يهللون كثيراً، او يعظون بالشعر والنثر والفصحى والفصاحة والصحافة والسياسة والفلسفة… الأخت منرڤا هي التواضع المذهل، والهدوء الوقور الذي لم أره من قبل. نعم في هذا المشهد الذي ابكى من كان خلف الكاميرا، تفتح فاها فتعلمنا كسيدها، واقتبس من كلماتها ما اقتبسته لوصف ابنها والذي ينطبق عليها تماماً؛ انها قارورة الطيب التي لن تشعر بها إلا عند كسرها فتفوح الرائحة الذكية ويمتلئ العالم من طيبها الطيب والنفيس. بل دعني أقول انها انسحقت واكتوت بكل ما تحمله الكلمة من حقيقة في هذا المشهد. لم تسكت ولم تسقط، لم تنهار رغم النار. لقد تركت كل شيئٍا قديماً إيمانا منها بالدور الذي أكرمها الرب به، فصارت ربة أسرة مؤثرة. وان كانت قد فقدت ما لا يُعوض من هذه الأسرة ولكنك تجدها تتحدث للأبناء والإباء، واعظة ومُرشدة، ناصحة ومُعلمة اياهم بعد أيامٍ قليلة من موت ابنها. تكلمهم في ابتسامة مؤثرة عن الأولويات والأبدية والعطاء والمحبة والخدمة والبذل والتواضع والشكر وغيرها الكثير… وكأنها تُقلّب صفحات قصة حياة ابنها الحلو لتُخرج منها دروساً لمن يسمعها، فقد فتحت جنة ابنها ليقطف ويلتقط منها كل عاقل ازهاراً وثماراً واثماراً، كنوزاً واطياباً. علمتنا ان هناك حقائق أخرى أكثر حقيقةً يجب ان نعيش لها، فعمت الاستفادة من هذه الحبة المحبوبة التي ماتت لتأتي بثمر كثير متشبهة بسيدها الكريم.
ثمر؟ الم تقل قبل قليل انها زرعت ولم ولن تحصد؟ نعم انه إكرام سيدها، فبعد ساعات قليلة رأت ثمراً متكاثراً ومتناثراً في كل ربوع الارض، ثمراً عاشت وماتت قبلها ملايين الأمهات ولم يرون عُشر ما رأته تلك الام. فتراها وقد تنازلت عن حقها في الثمر الأرضي من الشهادة والتكريم والزواج وفرحة الأحفاد، لتربح شهادة الآلاف والتكريم الإلهي والزفاف السماوي بالإضافة الى أحفاد كثيرين أتى بهم ماركو لمعرفة الرب في حياته ورقاده.
انها شعرت بإكرام الرب ان يجوزها نفس سيف المطوبة قديماً، فقبِلت دون ضجر او لوم. مازال الرب يتكلم لنا من خلال أشخاص مُعاصرين حولنا، انجيل معاش؛ يشهد عن صحة الكتاب المقدس وصدق كلامه وصلاحيته لكل العصور والخلفيات والثقافات، انجيل يستخدمه الله بكل قوة في وقتٍ زرع إبليس الرفض في نفوس البشر ان يقرؤوا الكلمة المكتوبة. وختمت بنفس الترنيمة التي شغلني بها الرب في ذلك اليوم إذ كانت صلاتي ان تكون شعارنا والأسرة: في قلبي كما انت لا يعتريك سيدي تغير البتة… تعلو الحياة بي أو ربما تهـوي لكنـك في قلبي لا لا تـتـأثـر… في دمعة العين وكثـرة الشجن ها تعزياتك تلـذ لي في داخلـي… ستبقى شامخاً في قلبي، حبي سندي... في قلبي كما انت لا يعتريك سيدي تغير البتة…